سورة الأنبياء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}
اعلم أن الكلام من أول السورة إلى هاهنا كان في النبوات وما يتصل بها من الكلام سؤالاً وجواباً، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الأضداد والأنداد.
أما قوله تعالى: {أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: أم هاهنا هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة قد أذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها، والمنكر هو اتخاذهم آلهم من الأرض ينشرون الموتى، ولعمري إن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات، فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة ينشرون وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم بل كانوا في نهاية البعد عن هذه الدعوى، فإنهم كانوا مع إقرارهم بالله وبأنه خالق السموات والأرض منكرين للبعث، ويقولون: {مَن يُحييِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} [يس: 78] فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة ألبتة؟ قلت: لأنهم لما اشتغلوا بعبادتها ولا بد للعبادة من فائدة هي الثواب فإقدامهم على عبادتها يوجب عليهم الإقرار بكونهم قادرين على الحشر والنشر والثواب والعقاب، فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم والتجهيل، يعني إذا كانوا غير قادرين على أن يحيوا ويميتوا ويضروا وينفعوا فأي عقل يجوز اتخاذهم آلهة.
المسألة الثانية: قوله: {مّنَ الأرض} كقولك فلان من مكة أو من المدينة، تريد مكي أو مدني إذ معنى نسبتها إلى الأرض الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض لأن الآلهة على ضربين: أرضية وسماوية ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض، لأنها إما أن تكون منحوتة من بعض الحجارة أو معمولة من بعض جواهر الأرض.
المسألة الثالثة: النكتة في {هُمْ يُنشِرُونَ} معنى الخصوصية كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة من الأرض لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم.
المسألة الرابعة: قرأ الحسن {ينشرون} وهما لغتان أنشر الله الموتى ونشرها.
أما قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال أهل النحو إلا هاهنا بمعنى غير أي لو كان يتولاهما ويدير أمورهما شيء غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا، ولا يجوز أن يكون بمعنى الاستثناء لأنا لو حملناه على الإستثناء لكان المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد، وذلك باطل لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء لم يكن الله معهم أو كان فالفساد لازم. ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت أن المراد ما ذكرناه.
المسألة الثانية: قال المتكلمون: القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالاً، إنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلابد وأن يكون كل واحد منهما قادراً على كل المقدورات ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادراً على تحريك زيد وتسكينه فلو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه والآخر تسكينه، فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر، فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، فلو امتنعا معاً لوجدا معاً وذلك محال أو يقع مراد أحدهما دون الثاني وذلك محال أيضاً لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كل واحد منهما قادراً على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لابد وأن يستويا في القدرة. وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح.
وثانيهما: أنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده يكون قادراً والذي لم يقع مراده يكون عاجزاً والعجز نقص وهو على الله محال.
فإن قيل الفساد إنما يلزم عند اختلافهما في الإرادة وأنتم لا تدعون وجوب اختلافهما في الإرادة بل أقصى ما تدعونه أن اختلافهما في الإرادة ممكن، فإذا كان الفساد مبنياً على الإختلاف في الإرادة وهذا الإختلاف ممكن والمبني على الممكن ممكن فكان الفساد ممكناً لا واقعاً فكيف جزم الله تعالى بوقوع الفساد؟ قلنا الجواب من وجهين:
أحدهما: لعله سبحانه أجرى الممكن مجرى الواقع بناء على الظاهر من حيث إن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب.
والثاني: وهو الأقوى أن نبين لزوم الفساد لا من الوجه الذي ذكرناه بل من وجه آخر، فنقول: لو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادراً على جميع المقدّورات فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد وهو محال لأن استناد الفعل إلى الفاعل لإمكانه فإذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلاً منهما جميعاً فيلزم استغناؤه عنهما معاً واحتياجه إليهما معاً وذلك محال. وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد، فنقول القول بوجود الإلهين يفضي إلى امتناع وقوع المقدور لواحد منهما وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع ألبتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعاً، أو نقول لو قدرنا إلهين، فإما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال وإن اختلفا، فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات، فإن قلت: لم لا يجوز أن يتفقا على الشيء الواحد ولا يلزم الفساد لأن الفساد إنما يلزم لو أراد كل واحد منهما أن يوجده هو وهذا اختلاف، أما إذا أراد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما بعينه فهناك لا يلزم وقوع مخلوق بين خالقين، قلت: كونه موجداً له، إما أن يكون نفس القدرة والإرادة أو نفس ذلك الأثر أو أمراً ثالثاً، فإن كان الأول لزم الإشتراك في القدرة والإرادة والاشتراك في الموجد، وإن كان الثاني فليس وقوع ذلك الأثر بقدرة أحدهما وإرادته أولى من وقوعه بقدرة الثاني، لأن لكل واحد منهما إرادة مستقلة بالتأثير، وإن كان الثالث وهو أن يكون الموجد له أمراً ثالثاً فذلك الثالث إن كان قديماً استحال كونه متعلق الإرادة. وإن كان حادثاً فهو نفس الأثر، ويصير هذا القسم هو القسم الثاني الذي ذكرناه.
واعلم أنك لما وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المحدثات والمخلوقات فهو دليل وحدانية الله تعالى بل وجود كل واحد من الجواهر والأعراض دليل تام على التوحيد من الوجه الذي بيناه. وهذه الدلالة قد ذكرها الله تعالى في مواضع من كتابه، واعلم أن هاهنا أدلة أخرى على وحدانية الله تعالى.
أحدها: وهو الأقوى أن يقال: لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لذاتيهما فلابد وأن يشتركا في الوجود ولا بد وأن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بنفسه وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركباً مما به يشارك الآخر ومما به امتاز عنه، وكل مركب فهو مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره، فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته. هذا خلف، فإذن واجب الوجود ليس إلا الواحد وكل ما عداه فهو ممكن مفتقر إليه وكل مفتقر في وجوده إلى الغير فهو محدث فكل ما سوى الله تعالى محدث، ويمكن جعل هذه الدلالة تفسيراً لهذه الآية. لأنا إنما دللنا على أنه يلزم من فرض موجودين واجبين أن لا يكون شيء منهما واجباً وإذا لم يوجد الواجب لم يوجد شيء من هذه الممكنات، وحينئذ يلزم الفساد فثبت أنه يلزم من وجود إلهين وقوع الفساد في كل العالم.
وثانيها: أنا لو قدرنا إلهين لوجب أن يكون كل واحد منهما مشاركاً للآخر في الإلهية، ولا بد وأن يتميز كل واحد منهما عن الآخر بأمر ما وإلا لما حصل التعدد، فما به الممايزة إما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال فالخالي عنه يكون خالياً عن الكمال فيكون ناقصاً والناقص لا يكون إلهاً، وإن لم يكن صفة كمال فالموصوف به يكون موصوفاً بما لايكون صفة كمال فيكون ناقصاً، ويمكن أن يقال: ما به الممايزة إن كان معتبراً في تحقق الإلهية فالخالي عنه لا يكون إلهاً وإن لم يكن معتبراً في الإلهية لم يكن الاتصاف به واجباً، فيفتقر إلى المخصص فالموصوف به مفتقر ومحتاج.
وثالثها: أن يقال: لو فرضنا إلهين لكان لابد وأن يكونا بحيث يتمكن الغير من التمييز بينهما، لكن الامتياز في عقولنا لا يحصل إلا بالتباين في المكان أو في الزمان أو في الوجوب والإمكان وكل ذلك على الإله محال فيمتنع حصول الإمتياز.
ورابعها: أن أحد الإلهين إما أن يكون كافياً في تدبير العالم أو لا يكون فإن كان كافياً كان الثاني ضائعاً غير محتاج إليه، وذلك نقص والناقص لا يكون إلهاً.
وخامسها: أن العقل يقتضي احتياج المحدث إلى الفاعل ولا امتناع في كون الفاعل الواحد مدبراً لكل العالم.
فأما ما وراء ذلك فليس عدد أولى من عدد فيفضي ذلك إلى وجود أعداد لا نهاية لها وذلك محال فالقول بوجود الآلهة محال.
وسادسها: أن أحد الإلهين إما أن يقدر على أن يخص نفسه بدليل يدل عليه ولا يدل على غيره أو لا يقدر عليه. والأول محال لأن دليل الصانع ليس إلا بالمحدثات وليس في حدوث المحدثات ما يدل على تعيين أحدهما دون الثاني والتالي محال لأنه يفضي إلى كونه عاجزاً عن تعريف نفسه على التعيين والعاجز لا يكون إلهاً.
وسابعها: أن أحد الإلهين إما أن يقدر على أن يستر شيئاً من أفعاله عن الآخر أو لا يقدر، فإن قدر لزم أن يكون المستور عنه جاهلاً، وإن لم يقدر لزم كونه عاجزاً.
وثامنها: لو قدرنا إلهين لكان مجموع قدرتيهما بينهما أقوى من قدرة كل واحد منهما وحده، فيكون كل واحد من القدرتين متناهياً والمجموع ضعف المتناهي فيكون الكل متناهياً. وتاسعاً: العدد ناقص لاحتياجه إلى الواحد، والواحد الذي يوجد من جنسه عدد ناقص ناقص، لأن العدد أزيد منه، والناقص لا يكون إلهاً فالإله واحد لا محالة.
وعاشرها: أنا لو فرضنا معدوماً ممكن الوجود ثم قدرنا إلهين فإن لم يقدر واحد منهما على إيجاده كان كل واحد منهما عاجزاً والعاجز لا يكون إلهاً، وإن قدر أحدهما دون الآخر فهذا الآخر يكون إلهاً، وإن قدرا جميعاً فإما أن يوجداه بالتعاون فيكون كل واحد منهما محتاجاً إلى إعانة الآخر، وإن قدر كل واحد على إيجاده بالاستقلال فإذا أوجده أحدهما فإما أن يبقى الثاني قادراً عليه وهو محال لأن إيجاد الموجود محال، وإن لم يبق فحينئذ يكون الأول قد أزال قدرة الثاني وعجزه فيكون مقهوراً تحت تصرفه فلا يكون إلهاً.
فإن قيل الواجد إذا أوجد مقدوره فقد زالت قدرته عنه فيلزمكم العجز، قلنا: الواحد إذا أوجده فقد نفذت قدرته فنفاذ القدرة لا يكون عجزاً، أما الشريك فإنه لما نفذت قدرته لم يبق لشريكه قدرة ألبتة بل زالت قدرته بسبب قدرة الأول فيكون تعجيزاً.
الحادي عشر: أن نقرر هذه الدلالة على وجه آخر وهو أن نعين جسماً وتقول هل يقدر كل واحد منهما على خلق الحركة فيه بدلاً عن السكون وبالعكس، فإن لم يقدر كان عاجزاً وإن قدر فنسوق الدلالة إلى أن نقول إذا خلق أحدهما فيه حركة امتنع على الثاني خلق السكون، فالأول أزال قدرة الثاني وعجزه فلا يكون إلهاً، وهذان الوجهان يفيدان العجز نظراً إلى قدرتيهما والدلالة الأولى إنما تفيد العجز بالنظر إلى أرادتيهما.
وثاني عشرها: أنهما لما كانا عالمين بجميع المعلومات كان علم كل واحد منهما متعلقاً بعين معلوم الآخر فوجب تماثل علميهما والذات القابلة لأحد المثلين قابلة للمثل الآخر، فاختصاص كل واحد منهما بتلك الصفة مع جواز اتصافه بصفة الآخر على البدل يستدعي مخصصاً يخصص كل واحد منهما بعلمه وقدرته فيكون كل واحد منهما عبداً فقيراً ناقصاً.
وثالث عشرها: أن الشركة عيب ونقص في الشاهد، والفردانية والتوحد صفة كمال، ونرى الملوك يكرهون الشركة في الملك الحقير المختصر أشد الكراهية. ونرى أنه كلما كان الملك أعظم كانت النفرة عن الشركة أشد، فما ظنك بملك الله عز وجل وملكوته فلو أراد أحدهما استخلاص الملك لنفسه، فإن قدر عليه كان المغلوب فقيراً عاجزاً فلا يكون إلهاً، وإن لم يقدر عليه كان في أشد الغم والكراهية فلا يكون إلهاً.
ورابع عشرها: أنا لو قدرنا إلهين لكان إما أن يحتاج كل واحد منهما إلى الآخر أو يستغني كل واحد منهما عن الآخر أو يحتاج أحدهما إلى الآخر والآخر يستغني عنه، فإن كان الأول كان كل واحد منهما ناقصاً لأن المحتاج ناقص وإن كان الثاني كان كل واحد منهما مستغنياً عنه، والمستغني عنه ناقص، ألا ترى أن البلد إذا كان له رئيس والناس يحصلون مصالح البلد من غير رجوع منهم إليه ومن غير التفات منهم إليه عد ذلك الرئيس ناقصاً، فالإله هو الذي يستغني به ولا يستغنى عنه، وإن احتاج أحدهما إلى الآخر من غير عكس كان المحتاج ناقصاً والمحتاج إليه هو الإله.
واعلم أن هذه الوجوه ظنية إقناعية والاعتماد على الوجوه المتقدمة، أما الدلائل السمعية فمن وجوه:
أحدها: قوله تعالى: {هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3] فالأول هو الفرد السابق، ولذلك لو قال أول عبد اشتريته فهو حر فلو اشترى أولا عبدين لم يحنث لأن شرط الأول أن يكون فرداً.
وهذا ليس بفرد فلو اشترى بعد ذلك واحداً لم يحنث أيضاً لأن شرط الفرد أن يكون سابقاً وهذا ليس بسابق.
فلما وصف الله تعالى نفسه بكونه أولاً وجب أن يكون فرداً سابقاً فوجب أن لا يكون له شريك.
وثانيها: قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] فالنص يقتضي أن لا يكون أحد سواه عالماً بالغيب ولو كان له شريك لكان عالماً بالغيب وهو خلاف النص.
وثالثها: أن الله تعالى صرح بكلمة {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [البقرة: 163] في سبعة وثلاثين موضعاً من كتابه وصرح بالوحدانية في مواضع نحو قوله: {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163] وقوله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وكل ذلك صريح في الباب.
ورابعها: قوله تعالى: {كُلُّ شَيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] حكم بهلاك كل ما سواه، ومن عدم بعد وجوده لا يكون قديماً، ومن لا يكون قديماً لا يكون إلهاً.
وخامسها: قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} وهو كقوله: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] وقوله: {إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42].
وسادسها: قوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 17] {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] وقال في آية أخرى: {قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هن ممسكات رحمته} [الزمر: 38].
وسابعها: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46] وهذا الحصر يدل على نفي الشريك.
وثامنها: قوله تعالى: {الله خالق كُلّ شَيْء} [الزمر: 62] فلو وجد الشريك لم يكن خالقاً فلم يكن فيه فائدة، واعلم أن كل مسألة لا تتوقف معرفة صدق الرسل عليها فإنه يمكن إثباتها بالسمع والوحدانية لا تتوقف معرفة صدق الرسل عليها، فلا جرم يمكن إثباتها بالدلائل السمعية، واعلم أن من طعن في دلالة التمانع فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة تقول بإلهيتها عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم قالوا وهذا أولى لأنه تعالى حكى عنهم قوله: {أَمِ اتخذوا آلِهَةً مّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ} ثم ذكر الدلالة على فساد هذا فوجب أن يختص الدليل به وبالله التوفيق.
أما قوله تعالى: {فسبحان الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: أنه سبحانه لما أقام الدلالة القاطعة على التوحيد قال بعده: {فسبحان الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} أي هو منزه لأجل هذه الأدلة عن وصفهم بأن معه إلهاً، وهذا تنبيه على أن الإشتغال بالتسبيح إنما ينفع بعد إقامة الدلالة على كونه تعالى منزهاً وعلى أن طريقة التقليد طريقة مهجورة.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول أي فائدة لقوله: {فسبحان الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} ولمَ لم يكتف بقوله: {فَسُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ}؟ وجوابه أن هذه المناظرة إنما وقعت مع عبدة الأصنام، إلا أن الدليل الذي ذكره الله تعالى يعم جميع المخالفين، ثم إنه تعالى بعد ذكر الدليل العام نبه على نكتة خاصة بعبدة الأصنام، وهي أنه كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الذي لا يعقل ولا يحس شريكاً في الإلهية لخالق العرش العظيم وموجد السموات والأرضين ومدبر الخلائق من النور والظلمة واللوح والقلم والذات والصفات والجماد والنبات وأنواع الحيوانات أجمعين.
أما قوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} فاعلم أنه مشتمل على بحثين: أحدهما: أن الله تعالى لا يسأل عن شيء من أفعاله ولا يقال له لم فعلت.
والثاني: أن الخلائق مسؤولون عن أفعالهم، أما البحث الأول ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن عمدة من أثبت لله شريكاً ليست إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى قالوا: رأينا في العالم خيراً وشراً ولذة وألماً وحياة وموتاً وصحة وسقماً وغنى وفقراً، وفاعل الخير خير وفاعل الشر شرير، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيراً وشريراً معاً، فلابد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلاً للخير والآخر فاعلاً للشر. ويرجع حاصل هذه الشبهة إلى أن مدبر العالم لو كان واحداً لما خص هذا بالحياة والصحة والغنى، وخص ذلك بالموت والألم والفقر. فيرجع حاصله إلى طلب اللمية في أفعال الله تعالى.
فلما كان مدار أمر القائلين بالشريك على طلب اللمية لا جرم أنه سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك، لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يقع الإبتداء بذكر الدليل المثبت للمطلوب. ثم يذكر بعده ما هو الجواب عن شبهة الخصم.
المسألة الثانية: في الدلالة على أنه سبحانه: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} أما أهل السنة فإنهم استدلوا عليه بوجوه:
أحدها: أنه لو كان كل شيء معللاً بعلة لكانت علية تلك العلة معللة بعلة أخرى ويلزم التسلسل فلابد في قطع التسلسل من الإنتهاء إلى ما يكون غنياً عن العلة وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى وصفاته، وكما أن ذاته منزهة عن الإفتقار إلى المؤثر والعلة، وصفاته مبرأة عن الافتقار إلى المبدع والمخصص فكذا فاعليته يجب أن تكون مقدسة عن الإستناد إلى الموجب والمؤثر.
وثانيها: أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة، إما أن تكون واجبة أو ممكنة فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونه فاعلاً، وحينئذ يكون موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار، وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلاً لله تعالى أيضاً فتفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال.
وثالثها: أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة فيلزم قدم العالم وإن كانت محدثة افتقر إلى علة أخرى ولزم التسلسل.
ورابعها: أن من فعل فعلاً لغرض، فإما أن يكون متمكناً من تحصل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة أو لا يكون متمكناً منه. فإن كان متمكناً منه كان توسط تلك الواسطة عبثاً وإن لم يكن متمكناً منه كان عاجزاً والعجز على الله تعالى محال، أما العجز علينا فغير ممتنع فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض، وكل ذلك في حق الله تعالى محال.
وخامسها: أنه لو كان فعله معللاً بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى أو إلى العباد والأول محال لأنه منزه عن النفع والضر، وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لابد وأن يكون عائداً إلى العباد، ولا غرض للعباد إلا حصول اللذات وعدم حصول الآلام، والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء من غير شيء من الوسائط. وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئاً لأجل شيء.
وسادسها: هو أنه لو فعل فعلاً لغرض لكان وجود ذلك الغرض وعدمه بالنسبة إليه إما أن يكون على السواء أو لا يكون، فإن كان على السواء استحال أن يكون غرضاً، وإن لم يكن على السواء لزم كونه تعالى ناقصاً بذاته كاملاً بغيره وذلك محال، فإن قلت وجود ذلك الغرض وعدمه وإن كان بالنسبة إليه على السواء.
أما بالنسبة إلى العباد فالوجود أولى من العدم، قلنا: تحصيل تلك الأولوية للعبد وعدم تحصيلها له إما أن يكون بالنسبة إليه على السوية أو لا على السوية، ويعود التقسيم الأول.
وسابعها: وهو أن الموجود إما هو سبحانه أو ملكه وملكه ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت ذلك.
وثامنها: وهو أن من قال لغيره لم فعلت ذلك؟ فهذا السؤال إنما يحسن حيث يحتمل أن يقدر السائل على منع المسؤول منه عن فعله وذلك من العبد في حق الله تعالى محال، فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك؟ إما بأن يهدده بالعقاب والإيلام وذلك على الله تعالى محال، أو بأن يهدده باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والإنصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة وذلك أيضاً محال، لأن استحقاقه للمدح واتصافه بصفات الحكمة والجلال أمور ذاتية له، وما ثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات العرضية الخارجية، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله لم فعلت هذا الفعل؟ فإن كل شيء صنعه ولا علة لصنعه، وأما المعتزلة فإنهم سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت هذا الفعل ولكنهم بنوا ذلك على أصل آخر، وهو أنه تعالى عالم بقبح القبائح، وعالم بكونه غنياً عنها، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح، وإذا عرفنا ذلك عرفنا إجمالاً أن كل ما يفعله الله تعالى فهو حكمة وصواب، وإذا كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله لم فعلت هذا.
أما البحث الثاني: وهو قوله تعالى: {وَهُمْ يُسْئَلُونَ} فهذا يدل على كون المكلفين مسؤولين عن أفعالهم وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أن الكلام في هذا السؤال إما في الإمكان العقلي أو في الوقوع السمعي، أما الإمكان العقلي فالخلاف فيه مع منكري التكاليف، واحتجوا على قولهم بوجوه:
أحدها: قالوا: التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك، أو حال رجحان أحدهما على الآخر. والأول محال لأن حال الاستواء يمتنع الترجيح وحال امتناع الترجيح يكون التكليف بالترجيح تكليفاً بالمحال، والثاني محال لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع والمرجوع ممتنع الوقوع. والتكليف بإيقاع ما يكون واجب الوقوع عبث، وبإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف بما لا يطاق.
وثانيها: قالوا كل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع فيكون التكليف به عبثاً، وكل ما علم الله تعالى عدمه كان ممتنع الوقوع، فيكون التكليف به تكليفاً بما لا يطاق.
وثالثها: قالوا: سؤال العبد ما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة فإن كان لفائدة فتلك الفائدة إن عادت إلى الله تعالى كان محتاجاً وهو محال، وإن عادت إلى العبد فهو محال، لأن سؤاله لما كان سبباً لتوجيه العقاب عليه، لم يكن هذا نفعاً عائداً إلى العبد بل ضرراً عائداً إليه، وإن لم يكن في السؤال فائدة كان عبثاً وهو غير جائز على الحكيم، بل كان إضراراً وهو غير جائز على الرحيم.
والجواب عنها من وجهين:
الأول: أن غرضكم من إيراد هذه الشبهة النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم تكلفونا بنفي التكليف وهو متناقض.
والثاني: وهو أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد وهو أن التكاليف كلها تكاليف بما لا يطاق فلا يجوز من الحكيم أن يوجبها على العباد فيرجع حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال له تعالى: لم كلفت عبادك، إلا أن قد بينا أنه سبحانه: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} فظهر بهذا أن قوله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} كالأصل والقاعدة لقوله: {وَهُمْ يُسْئَلُونَ} فتأمل في هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن، وأما الوقوع السمعي فلقائل أن يقول إن قوله: {وَهُمْ يُسْئَلُونَ} وإن كان متأكداً بقوله: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وبقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولونَ} [الصافات: 24] إلا أنه يناقضه قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 39] والجواب: أن يوم القيامة يوم طويل وفيه مقامات فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام آخر دفعاً للتناقض.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة فيه وجوه:
أحدها: أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل، بل كان يذم بما حقه الذم، كما يحمد بما حقه المدح.
وثانيها: أنه كان يجب أن لا يسأل عن الأمور إذا كان لا فاعل سواه.
وثالثها: أنه كان لا يجوز أن يسألوا عن عملهم إذ لا عمل لهم.
ورابعها: أن أعمالهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنها من حيث خلقها وأوجدها فيهم.
وخامسها: أنه تعالى صرح في كثير من المواضع بأنه يقبل حجة العباد عليه كقوله: {رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] وهذا يقتضي أن لهم عليه الحجة قبل بعثة الرسل، وقال: {وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} [طه: 134] ونظائر هذه الآيات كثيرة وكلها تدل على أن حجة العبد متوجهة على الله تعالى.
وسادسها: قال ثمامة إذا وقف العبد يوم القيامة فيقول الله تعالى: ما حملك على معصيتي؟ فيقول على مذهب الجبر: يا رب إنك خلقتني كافراً وأمرتني بما لا أقدر عليه وحلت بيني وبينه، ولا شك أنه على مذهب الجبر يكون صادقاً، وقال الله تعالى: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] فوجب أن ينفعه هذا الكلام فقيل له، ومن يدعه يقول: هذا الكلام أو يحتج؟ فقال ثمامة: أليس إذا منعه الله الكلام والحجة فقد علم أنه منعه مما لو لم يمنعه منه لانقطع في يده، وهذا نهاية الانقطاع.
والجواب عن هذه الوجوه: أنها معارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه الثمانية التي بينا فيها أنه يستحيل طلب لمية أفعال الله تعالى وأحكامه.
وأما قوله تعالى: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً قُلْ هَاتُواْ برهانكم} فاعلم أنه سبحانه كرر قوله: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً} استعظاماً لكفرهم أي وصفتم الله بأن له شريكاً فهاتوا برهانكم على ذلك.
أما من جهة العقل، أو من جهة النقل فإنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد أولاً وقرر الأصل الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية ثانياً، أخذ يطالبهم بذكر شبهتهم ثالثاً.
أما قوله تعالى: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسيره وفيه أقوال: أحدها: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} أي هذا هو الكتاب المنزل على من معي: {وهذا ذِكْرٌ مِّن قَبْلِي} أي الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وهو التوراة والإنجيل والزبور والصحف، وليس في شيء منها أني أذنت بأن تتخذوا إلهاً من دوني بل ليس فيها إلا: {إِنّى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ} كما قال بعد هذا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون} وهذا قول ابن عباس واختيار القفال والزجاج.
والثاني: وهو قول سعيد ابن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله: {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} صفة للقرآن فإنه كما يشتمل على أحوال هذه الأمة فكذا يشتمل على أحوال الأمم الماضية.
الثالث: ما ذكره القفال وهو أن المعنى قل لهم هذا الكتاب الذي جئتكم به قد اشتمل على بيان أحوال من معي من المخالفين والموافقين وعلى بيان أحوال من قبلي من المخالفين والموافقين فاختاروا لأنفسكم، كأن الغرض منه التهديد.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف قرئ: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} بالتنوين ومن مفعول منصوب بالذكر كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً} [البلد: 14، 15] وهو الأصل والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله: {غُلِبَتِ الروم * فِي أَدْنَى الأرض وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 2، 3] وقرئ: من معي ومن قبلي، بكسر ميم من على ترك الإضافة في هذه القراءة وإدخال الجار على مع غريب والعذر فيه أنه اسم هو ظرف نحو قبل وبعد فدخل من عليه كما يدخل على إخواته وقرئ: ذكر معي وذكر قبلي.
وأما قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق فَهُمْ مُّعْرِضُونَ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد وطالبهم بالدلالة على ما ادعوه وبين أنه لا دليل لهم ألبتة عليه لا من جهة العقل ولا من جهة السمع، ذكر بعده أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه، بل ذلك لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد كله وهو عدم العلم، ثم ترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: قرئ: {الحق} بالرفع على توسط التوكيد بين السبب والمسبب، والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل.
أما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون} فاعلم أن يوحى ونوحى قراءتان مشهورتان، وهذه الآية مقررة لما سبقها من آيات التوحيد.


{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين بالدلائل الباهرة كونه منزهاً عن الشريك والضد والند أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد فقال: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله وأضافوا إلى ذلك أنه تعالى صاهر الجن على ما حكى الله تعالى عنهم فقال: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] ثم إنه سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله سبحانه لأن الولد لابد وأن يكون شبيهاً بالوالد فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه، ثم لابد وأن يخالفه من وجه آخر وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيقع التركيب في ذات الله سبحانه وتعالى وكل مركب ممكن، فاتخاذه للولد يدل على كونه ممكناً غير واجب. وذلك يخرجه عن حد الإلهية ويدخله في حد العبودية، ولذلك نزه نفسه عنه.
أما قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} فاعلم أنه سبحانه لما نزه نفسه عن الولد أخبر عنهم بأنهم عباد والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم مكرمون مفضلون على سائر العباد وقرئ: {مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ} من سابقته فسبقته أسبقه. والمعنى أنهم يتبعونه في قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله فلا يسبق قولهم قوله، وكما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضاً كذلك مبني على أمره لا يعملون عملاً ما لم يؤمروا به.
ثم إنه سبحانه ذكر ما يجري مجرى السبب لهذه الطاعة فقال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} والمعنى أنهم لما علموا كونه سبحانه عالماً بجميع المعلومات علموا كونه عالماً بظواهرهم هم وبواطنهم، فكان ذلك داعياً لهم إلى نهاية الخضوع وكمال العبودية. وذكر المفسرون فيه وجوهاً:
أحدها: قال ابن عباس: يعلم ما قدموا وما أخروا من أعمالهم.
وثانيها: ما بين أيديهم الآخرة وما خلفهم الدنيا وقيل على عكس ذلك.
وثالثها: قال مقاتل: يعلم ما كان قبل أن يخلقهم وما يكون بعد خلقهم. وحقيقة المعنى أنهم يتقلبون تحت قدرته في ملكوته وهو محيط بهم، وإذا كانت هذه حالتهم فكيف يستحقون العبادة وكيف يتقدمون بين يدي الله تعالى فيشفعون لمن لم يأذن الله تعالى له. ثم كشف عن هذا المعنى فقال: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} أي لمن هو عند الله مرضي: {وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} أي من خشيتهم منه، فأضيف المصدر إلى المفعول ومشفقون خائفون ولا يأمنون مكره وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله تعالى ونظيره قوله تعالى: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} [النبأ: 38].
أما قوله تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} فالمعنى أن كل من يقول من الملائكة ذلك القول فإنا نجازي ذلك القائل بهذا الجزاء، وهذا لا يدل على أنهم قالوا ذلك أو ما قالوه وهو قريب من قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: هذه الصفات تدل على العبودية وتنافي الولادة لوجوه:
أحدها: أنهم لما بالغوا في الطاعة إلى حيث لا يقولون قولاً ولا يعملون عملاً إلا بأمره فهذه صفات للعبيد لا صفات الأولاد.
وثانيها: أنه سبحانه لما كان عالماً بأسرار الملائكة وهم لا يعلمون أسرار الله تعالى وجب أن يكون الإله المستحق للعبادة هو لا هؤلاء الملائكة وهذه الدلالة هي نفس ما ذكره عيسى عليه السلام في قوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116].
وثالثها: أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ومن يكن إلهاً أو ولداً للإله لا يكون كذلك.
ورابعها: أنهم على نهاية الإشفاق والوجل وذلك ليس إلا من صفات العبيد.
وخامسها: نبه تعالى بقوله: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} على أن حالهم حال سائر العبيد المكلفين في الوعد والوعيد فكيف يصح كونهم آلهة.
المسألة الثانية: احتجت المعتزلة بقوله تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر لأنه لا يقال في أهل الكبائر إن الله يرتضيهم.
والجواب: قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك: {إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} أي لمن قال لا إله إلا الله.
واعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر وتقريره هو أن من قال لا إله إلا الله فقد ارتضاه تعالى في ذلك ومتى صدق عليه أنه ارتضاه الله تعالى في ذلك فقد صدق عليه أنه ارتضاه الله لأن المركب متى صدق فقد صدق لا محالة كل واحد من أجزائه، وإذا ثبت أن الله قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية فثبت بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على ما قرره ابن عباس رضي الله عنهما.
المسألة الثالثة: هذه الآية تدل على أمور ثلاثة: أحدها: تدل على كون الملائكة مكلفين من حيث قال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} ومن حيث الوعيد.
وثانيها: تدل أيضاً على أن الملائكة معصومون لأنه قال: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}.
وثالثها: قال القاضي عبد الجبار قوله: {كذلك نَجْزِى الظالمين} يدل على أن كل ظالم يجزيه الله جهنم كما توعد الملائكة به وذلك يوجب القطع على أنه تعالى لا يغفر لأهل الكبائر في الآخرة.
والجواب: أقصى ما في الباب أن هذا العموم مشعر بالوعيد وهو معارض بعمومات الوعيد.


{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)}
اعلم أنه سبحانه وتعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع، وهذه الدلائل أيضاً دالة على كونه منزهاً عن الشريك، لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم، ووجود الإلهين يقتضي وقوع الفساد. فهذه الدلائل تدل من هذه الجهة على التوحيد فتكون كالتوكيد لما تقدم. وفيها أيضاً رد على عبدة الأوثان من حيث إن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات الشريفة كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع. فهذا وجه تعلق هذه الآية بما قبلها، واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر هاهنا ستة أنواع من الدلائل:
النوع الأول: قوله: {أَوَ لَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ أَنَّ السموات والأرض كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ألم ير بغير الواو والباقون بالواو وإدخال الواو يدل على العطف لهذا القول على أمر تقدمه.
قال صاحب الكشاف: قرئ رتقاً بفتح التاء، وكلاهما في معنى المفعول كالخلق والنفض أي كانتا مرتوقتين، فإن قلت الرتق صالح أن يقع موقع مرتوقتين لأنه مصدر فما بال الرتق؟ قلت: هو على تقدير موصوف أي كانتا شيئاً رتقاً.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: المراد من الرؤية في قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ}، إما الرؤية، وإما العلم والأول مشكل، أما أولاً فلأن القوم ما رأوهما كذلك ألبتة، وأما ثانياً فلقوله سبحانه وتعالى: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض} [الكهف: 51]، وأما العلم فمشكل لأن الأجسام، قابلة للفتق والرتق في أنفسها، فالحكم عليها بالرتق أولاً وبالفتق ثانياً لا سبيل إليه إلا السمع، والمناظرة مع الكفار الذين ينكرون الرسالة، فكيف يجوز التمسك بمثل هذا الاستدلال.
والجواب: المراد من الرؤية هو العلم وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه:
أحدها: أنا نثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسائر المعجزات ثم نستدل بقوله: ثم نجعله دليلاً على حصول النظام في العالم وانتقاء الفساد عنه وذلك يؤكد الدلالة المذكورة في التوحيد.
وثانياً: أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق والعقل، يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصاً.
وثالثها: أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك فإنه جاء في التوراة إن الله تعالى خلق جوهرة، ثم نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثم خلق السموات والأرض منها وفتق بينها، وكان بين عبدة الأوثان وبين اليهود نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك.
المسألة الثالثة: إنما قال: {كانتا رتقاً} ولم يقل كن رتقاً لأن السموات لفظ الجمع والمراد به الواحد الدال على الجنس، قال الأخفش: السموات نوع والأرض نوع، ومثله: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] ومن ذلك قولهم أصلحنا بين القومين، ومرت بنا غنمان أسودان، لأن هذا القطيع غنم وذلك غنم.
المسألة الرابعة: الرتق في اللغة السد، يقال: رتقت الشيء فارتتق والفتق الفصل بين الشيئين الملتصقين.
قال الزجاج: الرتق مصدر والمعنى كانتا ذواتي رتق، قال المفضل: إنما لم يقل كانتا رتقين كقوله: {وَمَا جعلناهم جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} [الأنبياء: 8] لأن كل واحد جسد كذلك فيما نحن فيه كل واحد رتق.
المسألة الخامسة: اختلف المفسرون في المراد من الرتق والفتق على أقوال: أحدها: وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ورواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم أن المعنى كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء لأنه تعالى لما فصل بينهما ترك الأرض حيث هي وأصعد الأجزاء السماوية، قال كعب: خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحاً توسطتهما ففتقهما بها.
وثانيها: وهو قول أبي صالح ومجاهد أن المعنى كانت السموات مرتتقة فجعلت سبع سموات وكذلك الأرضون.
وثالثها: وهو قول ابن عباس والحسن وأكثر المفسرين أن السموات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر، ونظيره قوله تعالى: {والسماء ذَاتِ الرجع * والأرض ذَاتِ الصدع} [الطارق: 11، 12] ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيء حَىٍّ} وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا.
فإن قيل: هذا الوجه مرجوح لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا، قلنا: إنما أطلق عليه لفظ الجمع، لأن كل قطعة منها سماء، كما يقال: ثوب أخلاق وبرمة أعشار.
واعلم أن هذا التأويل يجوز حمل الرؤية على الإبصار.
ورابعها: قول أبي مسلم الأصفهاني: يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله: {فَاطِرَ السموات والأرض} [الشورى: 11] وكقوله: {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض الذي فطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56] فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق. أقول وتحقيقه أن العدم نفي محض، فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة، بل كأنه أمر واحد متصل متشابه، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض وينفصل بعضها عن بعض، فبهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازاً عن العدم والفتق عن الوجود.
وخامسها: أن الليل سابق على النهار، لقوله تعالى: {وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وكانت السموات والأرض مظلمة أولاً ففتقهما الله تعالى بإظهار النهار المبصر، فإن قيل: فأي الأقاويل أليق بالظاهر؟ قلنا: الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه، والأرض على ما هي عليه كانتا رتقاً، ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان، والرتق ضد الفتق فإذا كان الفتق هو المفارقة فالرتق يجب أن يكون هو الملازمة، وبهذا الطريق صار الوجه الرابع والخامس مرجوحاً، ويصير الوجه الأول أولى الوجوه ويتلوه الوجه الثاني. وهو أن كل واحد منهما كان رتقاً ففتقهما بأن جعل كل واحد منهما سبعاً، ويتلوه الثالث وهو أنهما كانا صلبين من غير فطور وفرج، ففتقهما لينزل المطر من السماء، ويظهر النبات على الأرض.
المسألة السادسة: دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع وعلى وحدانيته ظاهرة، لأن أحداً لا يقدر على مثل ذلك، والأقرب أنه سبحانه خلقهما رتقاً لما فيه من المصلحة للملائكة، ثم لما أسكن الله الأرض أهلها جعلهما فتقاً لما فيه من منافع العباد.
النوع الثاني من الدلائل: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف قوله: وجعلنا لا يخلو إما أن يتعدى إلى واحد أو اثنين، فإن تعدى إلى واحد فالمعنى خلقنا من الماء كل حيوان كقوله: {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء} [النور: 45] أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لابد له منه، ومن هذا نحو من في قوله عليه السلام: «ما أنا من دد ولا الدد مني» وقرئ حياً وهو المفعول الثاني.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول كيف قال: وخلقنا من الماء كل حيوان، وقد قال: {والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27] وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى} [المائدة: 110] وقال في حق آدم: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] والجواب: اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة، فإن الدليل لابد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى عليهم السلام، لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك.
المسألة الثالثة: اختلف المفسرون فقال بعضهم المراد من قوله: {كُلَّ شَيء حَىّ} الحيوان فقط، وقال آخرون بل يدخل فيه النبات والشجر لأنه من الماء صار نامياً وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر، وهذا القول أليق بالمعنى المقصود، كأنه تعالى قال: ففتقنا السماء لإنزال المطر وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حياً، حجة القول الأول أن النبات لا يسمى حياً، قلنا لا نسلم والدليل عليه قوله تعالى: {كَيْفَ يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] أما قوله تعالى: {أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} فالمراد أفلا يؤمنون بأن يتدبروا هذه الأدلة فيعلموا بها الخالق الذي لا يشبه غيره ويتركوا طريقة الشرك.
النوع الثالث: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن تميد بهم كراهة أن تميد بهم أو لئلا تميد بهم فحذف لا واللام الأولى وإنما جاز حذف لا لعدم الالتباس كما ترى ذلك في قوله: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب}.
المسألة الثانية: الرواسي الجبال، والراسي هو الداخل في الأرض.
المسألة الثالثة: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الأرض بسطت على الماء فكانت تنكفئ بأهلها كما تنكفئ السفينة، لأنها بسطت على الماء فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال.
النوع الرابع: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: الفج الطريق الواسع، فإن قلت في الفجاج معنى الوصف فمالها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى: {لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} قلت لم تقدم وهي صفة، ولكنها جعلت حالاً كقوله:
لعزة موحشاً طلل قديم ***
والفرق من جهة المعنى أن قوله سبلاً فجاجاً، إعلام بأنه سبحانه جعل فيها طرقاً واسعة، وأما قوله: {فِجَاجاً سُبُلاً} فهو إعلام بأنه سبحانه حين خلقها جعلها على تلك الصفة، فهذه الآية بيان لما أبهم في الآية الأولى.
المسألة الثانية: في قوله: {فِيهَا} قولان: أحدهما أنها عائدة إلى الجبال، أي وجعلنا في الجبال التي هي رواسي فجاجاً سبلاً، أي طرقاً واسعة وهو قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وعن ابن عمر قال كانت الجبال منضمة فلما أغرق الله قوم نوح فرقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً.
الثاني: أنها عائدة إلى الأرض، أي وجعلنا في الأرض فجاجاً وهي المسالك والطرق وهو قول الكلبي.
المسألة الثالثة: قوله: {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} معناه لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله تعالى.
المسألة الرابعة: في يهتدون قولان: الأول: ليهتدوا إلى البلاد.
والثاني: ليهتدوا إلى وحدانية الله تعالى بالاستدلال، قالت المعتزلة وهذا التأويل يدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين الاهتداء. والكلام عليه قد تقدم، وفيه قول ثالث وهو أن الإهتداء إلى البلاد والاهتداء إلى وحدانية الله تعالى يشتركان في مفهوم واحد وهو أصل الاهتداء فيحمل اللفظ على ذلك المشترك وحينئذ تكون الآية متناولة للأمرين ولا يلزم منه كون اللفظ المشترك مستعملاً في مفهوميه معاً.
النوع الخامس: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: سمى السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت.
المسألة الثانية: في المحفوظ قولان:
أحدهما: أن محفوظ من الوقوع والسقوط الذين يجري مثلهما على سائر السقوف كقوله: {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] وقال: {وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ السماء والأرض بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] وقال تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] وقال: {وَلاَ يُؤُدهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255].
الثاني: محفوظاً من الشياطين قال تعالى: {وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ} [الحجر: 17] ثم هاهنا قولان:
أحدهما: أنه محفوظ بالملائكة من الشياطين.
والثاني: أنه محفوظ بالنجوم من الشياطين، والقول الأول أقوى لأن حمل الآيات عليه مما يزيد هذه النعمة عظماً لأنه سبحانه كالمتكفل بحفظه وسقوطه على المكلفين بخلاف القول الثاني لأنه لا يخاف على السماء من استراق سمع الجن.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ} معناه عما وضع الله تعالى فيها من الأدلة والعبر في حركاتها وكيفية حركاتها وجهات حركاتها ومطالعها ومغاربها واتصالات بعضها ببعض وانفصالاتها على الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة.
المسألة الرابعة: قرئ عن آيتها على التوحيد والمراد الجنس أي هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية كالاستضاءة بقمرها والاهتداء بكواكبها، وحياة الأرض بأمطارها وهم عن كونها آية بينة على وجود الخالق ووحدانيته معرضون.
النوع السادس: قوله تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ اليل والنهار والشمس والقمر كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه سبحانه لما قال: {وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ} فصل تلك الآيات هاهنا لأنه تعالى لو خلق السماء والأرض ولم يخلق الشمس والقمر ليظهر بهما الليل والنهار ويظهر بهما من المنافع بتعاقب الحر والبرد لم تتكامل نعم الله تعالى على عباده بل إنما يكون ذلك بسبب حركاتها في أفلاكها، فلهذا قال: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وتقريره أن نقول قد ثبت بالأرصاد أن للكواكب حركات مختلفة فمنها حركة تشملها بأسرها آخذة من المشرق إلى المغرب وهي حركة الشمس اليومية، ثم قال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة، وهاهنا حركة أخرى من المغرب إلى المشرق قالوا وهي ظاهرة في السبعة السيارة خفية في الثابتة، واستدلوا عليها بأنا وجدنا الكواكب السيارة كلما كان منها أسرع حركة إذا قارن ما هو أبطأ حركة فإنه بعد ذلك يتقدمه نحو المشرق وهذا في القمر ظاهر جداً فإنه يظهر بعد الإجتماع بيوم أو يومين من ناحية المغرب على بعد من الشمس ثم يزداد كل ليلة بعداً منها إلى أن يقابلها على قريب من نصف الشهر وكل كوكب كان شرقياً منه على طريقته في ممر البروج يزداد كل ليلة قرباً منه ثم إذا أدركه ستره بطرفه الشرقي وتنكسف تلك الكواكب عنه بطرفه الغربي فعرفنا أن لهذه الكواكب السيارة حركة من المغرب إلى المشرق، وكذلك وجدنا للكواكب الثابتة حركة بطيئة على توالي البروج فعرفنا أن لها حركة من المغرب إلى المشرق. هذا ما قالوه ونحن خالفناهم فيه، وقلنا: إن ذلك محال لأن الشمس مثلاً لو كانت متحركة بذاتها من المغرب إلى المشرق حركة بطيئة ولا شك أنها متحركة بسبب الحركة اليومية من المغرب إلى المشرق لزم كون الجرم الواحد متحركاً حركتين إلى جهتين مختلفتين دفعة احدة وذلك محال لأن الحركة إلى الجهة تقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين وهو محال.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: الشمس حال حركتها إلى الجانب الشرقي تنقطع حركتها إلى الجانب الغربي وبالعكس، وأيضاً فما ذكرتموه ينتقض بحركة الرحى إلى جانب والنملة التي تكون عليها تتحرك إلى خلاف ذلك الجانب، قلنا: أما الأول فلا يستقيم على أصولكم لأن حركات الأفلاك مصونة عن الانقطاع عندكم، وأما الثاني فهو مثال محتمل وما ذكرناه برهان قاطع فلا يتعارضان، أما الذي احتجوا به على أن للكواكب حركة من المغرب إلى المشرق فهو ضعيف، فإنه يقال لم لا يجوز أن يقال إن جميع الكواكب متحركة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض فيتخلف بعضها عن بعض بسبب ذلك التخلف فيظن أنها تتحرك إلى خلاف تلك الجهة مثلاً الفلك الأعظم استدارته من أول اليوم الأول إلى أول اليوم الثاني دورة تامة وفلك الثوابت استدارته من أول اليوم الأولى إلى أول اليوم الثاني دورة تامة إلا مقدار ثانية فيظن أن فلك الثوابت تحرك من الجهة الأخرى مقدار ثانية ولا يكون كذلك بل ذلك لأنه تخلف بمقدار ثانية، وعلى هذا التقدير فجميع الجهات شرقية وأسرعها الحركة اليومية، ثم يليها في السرعة فلك الثوابت ثم يليها زحل وهكذا إلى أن ينتهي إلى فلك القمر فهو أبطأ الأفلاك حركة وهذا الذي قلناه مع ما يشهد له البرهان المذكور فهو أقرب إلى ترتيب الوجود، فإن على هذا التقدير تكون نهاية الحركة الفلك المحيط وهو الفلك الأعظم ونهاية السكون الجرم الذي هو في غاية البعد وهو الأرض، ثم إن كل ما كان أقرب إلى الفلك المحيط كان أسرع حركة وما كان منه أبعد كان أبطأ فهذا ما نقوله في حركات الأفلاك في أطوالها وأما حركاتها في عروضها فظاهرة وذلك بسبب اختلاف ميولها إلى الشمال والجنوب.
إذا ثبت هذا فنقول لو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصاً ببقعة واحدة، فكان سائر الجوانب تخلو عن المنافع الحاصلة منه، وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال وكانت القوة هناك لكيفية واحدة، فإن كانت حارة أفنت الرطوبات فأحالتها كلها إلى النارية، وبالجملة فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى وخط المتوسط بينهما على كيفية أخرى فيكون في موضع شتاء دائم ويكون فيه الهواء والعجاجة وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق وفي موضع آخر ربيع أو خريف لا يتم فيه النضج ولو لم تكن عودات متتالية، وكان الكوكب يتحرك بطيئاً لكان الميل قليل المنفعة والتأثير شديد الإفراط، وكان يعرض قريباً مما لو لم يكن ميل ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت، وأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة ثم ينتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة ويبقى في كل جهة برهة تم بذلك تأثيره بحيث يبقى مصوناً عن طرفي الإفراط والتفريط. وبالجملة، فالعقول لا تقف إلا على القليل من أسرار المخلوقات فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية.
المسألة الثانية: أنه لا يجوز أن يقول: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} إلا ويدخل في الكلام مع الشمس والقمر النجوم ليثبت معنى الجمع ومعنى الكل فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة أولاً فإنها مذكورة لعود هذا الضمير إليها والله أعلم.
المسألة الثالثة: الفلك في كلام العرب كل شيء دائر وجمعه أفلاك، واختلف العقلاء فيه فقال بعضهم: الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم وهو قول الضحاك، وقال الأكثرون: بل هي أجسام تدور النجوم عليها، وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن، ثم اختلفوا في كيفيته فقال بعضهم: الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه، وقال الكلبي: ماء مجموع تجري فيه الكواكب واحتج بأن السباحة لا تكون إلا في الماء، قلنا؛ لا نسلم فإنه يقال في الفرس الذي يمد يديه في الجري سابح، وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة: إنها أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والإلتئام والنمو والذبول، فأما الكلام على الفلاسفة فهو مذكور في الكتب اللائقة به، والحق أنه لا سبيل إلى معرفة صفات السموات إلا بالخبر.
المسألة الرابعة: اختلف الناس في حركات الكواكب والوجوه الممكنة فيها ثلاثة فإنه إما أن يكون الفلك ساكناً والكواكب تتحرك فيه كحركة السمك في الماء الراكد، وإما أن يكون الفلك متحركاً والكواكب تتحرك فيه أيضاً إما مخالفاً لجهة حركته أو موافقاً لجهته إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة، وإما أن يكون الفلك متحركاً والكوكب ساكناً، أما الرأي الأول فقالت الفلاسفة إنه باطل لأنه يوجب خرق الأفلاك وهو محال، وأما الرأي الثاني فحركة الكواكب إن فرضت مخالفة لحركة الفلك فذاك أيضاً يوجب الخرق وإن كانت حركتها إلى جهة الفلك فإن كانت مخالفة لها في السرعة والبطء لزم الانخراق وإن استويا في الجهة والسرعة والبطء فالخرق أيضاً لازم لأن الكواكب تتحرك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتية زائدة فيلزم الخرق فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أن يكون الكوكب مغروزاً في الفلك واقفاً فيه والفلك يتحرك فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك، واعلم أن مدار هذا الكلام على امتناع الخرق على الأفلاك وهو باطل بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي يدل عليه لفظ القرآن أن تكون الأفلاك واقفة والكواكب تكون جارية فيها كما تسبح السمكة في الماء.
المسألة الخامسة: قال صاحب الكشاف: {كُلٌّ} التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي كلهم في فلك يسبحون والله أعلم.
المسألة السادسة: احتج أبو علي بن سينا على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله: {يَسْبَحُونَ} قال والجمع بالواو والنون لا يكون إلا للعقلاء، وبقوله تعالى: {والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، والجواب: إنما جعل واو الضمير للعقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة قال صاحب الكشاف: فإن قلت الجملة ما محلها قلت النصب على الحال من الشمس والقمر أو لا محل لها لاستئنافها، فإن قلت: لكل واحد من القمرين فلك على حدة فكيف قيل جميعهم يسبحون في فلك؟ قلت: هذا كقولهم كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفاً أي كل واحد منهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8